صوت ألحان شتراوس العبقرية ينبعث من هذه السماعة العملاقة..
هناك
فتاة ترقص وقد سقط شعرها على وجهها بالكامل، ومعنى هذا أنها لا تدرك ما
يدور حولها ولا تبالي به.. إنها في غيبوبة كاملة. ومعنى هذا أنها قد اتحدت
باللحن ذاته لتتحول إلى ظاهرة فيزيائية..
أقطع شريحة أخرى من اللحم،
لكني لا أبتلعها.. في الواقع لا أتذكر ما يجب أن أفعله بها.. أعبث بالشوكة
طويلاً وأرفع عيني لأجد ذات الفتاة ما زالت ترقص.. صارت أكبر من الواقع..
صارت ظاهرة كونية كما قلت..
يقول لي عادل والسيجارة تتدلى من فمه:
- "أنت شارد الذهن جدًا.. هناك في عينيك كتاب كامل من الذكريات لا تقل صفحاته عن ألفي صفحة.. كم حياة عشت؟"
بالفعل عشت أكثر من حياة.. ألف حياة..
ألتهم
قطعة اللحم ومن جديد أنظر إلى المسرح حيث تلك الفتاة ترقص.. تهز شعرها..
لحن شتراوس.. هل هو "الدانوب الأزرق"؟ لا.. "نساء وندسور" على الأرجح..
لا.. "مارش رادتسكي"..
************
كان نفس اللحن يعزف في تلك الليلة..
في بيتنا كان اللحن يعزف من المذياع، وكان أبي غاضبًا لكن أمي لم تخفض صوت المذياع..
كنت أنا غارقًا في الحب.. كنت أتنفس بصعوبة تحت محيط من الحب عزلني عن العالم الخارجي، فلم أعد أرى أو أسمع أو أشم..
كان اسمها سديم.. سديم اسم من أجمل الأسماء التي سمعتها، ولم أسمعه بعد ذلك سوى مرة أو مرتين برغم أنني في الأربعين من عمري..
سديم.. الفتاة الشاحبة الرقيقة.. الفتاة التي كنت أقابلها في المقابر، وألعب معها ساعات متواصلة..
سديم ذات الأطراف الباردة.. سديم ذات العينين الشفافتين..
منذ
البداية كنت أعرف أنها ميتة، وأن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا.. ولو كان
حقيقيًا فلا مستقبل له.. كنت ناضجًا وكنت أفهم كل شيء، لكن قلبي ظل أخرق
غبيًا يأبى أن يستجيب لأوامري..
كنت عائدًا للبيت بعد مباراة كرة مع الأصدقاء، وكنت أختصر الطريق بأن أجتاز المقابر..
في
ذلك اليوم كان البرد شديدًا والغيوم كثيفة جدًا.. لهذا توارى الجميع في
بيوتهم يصطلون ويشربون العدس أو يأكلون محشوّ الكرنب ويتخيلون العاصفة
بالخارج..
كنا نحن المجانين الذين قررنا أن نلعب الكرة في طقس غائم
فعلاً، وسرعان ما عرفنا أنها فكرة فاشلة عندما بدأ المطر ينهمر.. وازداد
الأمر سوءًا عندما شق السماء لسان برق.. أضاءت وجوهنا وأظلمت، وشعرنا
بالقشعريرة قبل أن يقول مصطفى عامر:
- "لا جدوى.. ألغيت المباراة.."
ألغيت
المباراة إذن وتفرقنا.. كل واحد ركض في اتجاه.. بينما أنا أركض وسط الوحل
وأغطي وجهي.. كنت ألبس العوينات لأول أسبوع في حياتي، وبدا لي من المستحيل
أن أركض وأنا ألبسها؛ لأنها تتغطى بالماء في ثوانٍ، لكني كذلك لم أستطع
الركض من دونها..
كنت في مأزق.. خاصة أنني سأجتاز المقابر والله يعلم كم أن المشي فيها وعر وزلق..
************
المطر ينهمر خارج القاعة..
ليلة شبيهة بتلك
الليلة منذ ثلاثين عامًا.. لكن لا توجد هنا مقابر.. هناك حديقة ورجال أمن
وتماثيل ساحرة وإضاءة ليلية وحسناوات غنوجات ورائحة عطرية غريبة في الجو.
يقال إن هناك طاووسًا في الحديقة لكن من المستحيل أن يتركوه وسط هذه
الأمطار..
بيت جلال الشريف هو قصر في الحقيقة، ولا نطلق عليه لفظة
بيت إلا بحكم العادة.. السؤال هو متى يجمع هؤلاء القوم كل هذا المال؟ ادخرت
كل مليم حصلت عليه في حياتي، وبرغم هذا لا أقدر على شراء تمثال واحد من
تماثيل الحديقة هذه.. هل معنى هذا أنني فشلت في حياتي أم إن جلال نجح أكثر
من اللازم؟
هناك برق في السماء كذلك..
معدتي تتقلص.. البرق يجعلني عصبيًا جدًا ولا أعرف السبب.. ثم هذا الألم الغريب في فكي. أعرف هذا الألم الغريب في فكي..
************
في تلك الليلة كان فمي يؤلمني كذلك..
تعلمت منذ ذلك الحين أن البرق والعواصف يسببان لي ألمًا في الفك.. هناك من يشعرون بدنو العاصفة من ألم الركبة..
كنت
أشعر بألم الفكّ وأنا أنزلق بين القبور مرارًا.. بدأت أشعر بالذعر وأنا
أدرك أنني تورطت وضللت الطريق.. وحْلٌ وظلام.. كيف أعود للبيت إذن؟
ثم رأيتها هناك واقفة خلف قبر عال عن الأرض.. كانت تلبس ثوبًا طويلاً وتنظر لي.. العينان الواسعتان الشفافتان..
عرفت
كذلك من اللحظة الأولى أنها ميتة.. هذا واضح ولا شك فيه، لكني لم أشعر
برعب.. فقط شعرت بانجذاب هائل لها، ولم أتساءل عن كنهها ولا ما أتى بها
هنا.. فقط أذكر أنها راحت تركض بين المقابر وأنا أركض خلفها عالمًا بشكل ما
أنها طريقتي الوحيدة للخروج من هنا..
- "ما اسمك؟!"
صحت أناديها بصوت غمرته مياه المطر فقالت دون أن تنظر للخلف:
- "سديم!"
- "ماذا؟"
- "سديم!"
بدا لي الاسم غريبًا.. لكني عرفت أنني وقعت في حبها وحب اسمها..
فيما
بعد قيل إن اسم هذا المرض "نكروفيليا".. ليس هذا دقيقًا.. النكروفيل ينبش
المقابر ليخرج جثة يعاشرها.. هذا يثير القشعريرة في نفسي.. ليس هذا هو
الوضع هنا وأظنك توافقني..
سديم.. سديم.. سديم..
الحب الأول وربما الأخير.. الرجفة الأولى وخفقان القلب الأول..
وكانت متاعبي في البداية كما تعلم..
جاءت لتجلس معي على المائدة، وبيد واثقة بلا رجفة صبّت لنفسها بعض الماء في كأس، وقالت لي وهي تبلل شفتيها:
- "ماء فقط؟ لا تشرب؟"
قلت لها وأنا أرمق المدعوّين:
- "لا أشرب.."
- "والسبب؟ متديّن؟"
-
"الدين طريقة حياة.. ينشأ المرء في بيت يتعلّم معه أن يغسل يديه قبل الأكل
وبعده، ولا يأكل السمك من دون سلطة، ولا يشرب الخمر أبدًا..! أي أن هذا
السلوك الديني يتحول للطريقة السلوكية الوحيدة التي يعرفها.. هي طريقة حياة
كما قلت"
ضحكت كثيرًا حتى غلبها السعال، ثم قالت:
- "هل قابلت جلال الشريف؟"
- "لا.."
- "هل أنت من أصدقائه؟"
- "لا.. صديقي عادل من أصدقائه، وقد دعاني هنا كما يدعو الناس بعضهم للسيرك."
قالت بطريقة عابرة:
- "اسمي شيرين.."
- "أعرف هذا.."
- "جلال قريبي.."
- "أعرف هذا.."
كان الشعر يغطي عينيها فلا تراهما أبدًا.. فقط تدرك أنهما هناك خلف الستار وأنهما تنظران لك..
**************
عينا سديم كانتا كذلك..
غالبًا ما تكونان خلف الشعر فإذا انزاح
الستار أدركت أنهما شفافتان تمامًا.. كانت خجولاً جدًا خاصة عندما يحدث شيء
كريه مثل أن ينفصل إصبع من يدها أو يسقط جزء من الجلد. كانت تداري هذا في
خجل رغم أنني أخبرتها مرارًا بأنني لا أبالي..
كانت تقول لي:
- "سوف أنتهي يومًا.. أنت تعرف هذا..".
- "لا أرى هذا اليوم.."
- "التحلل حتمي.."
- "لكنه بطيء.. سوف ألحق بك في القبر قبل أن يسقط لك ظفر آخر.."
وكانت تضحك ثم تدعوني للعب.. تركض بين شواهد القبور وأنا أركض خلفها..
لقد
صارت سديم ضرورية جدًا لعالمي. صرت أتأخر عن البيت كثيرًا وصرت أشرد بلا
توقّف.. عندما آكل أعبث بالشوكة في طعامي ولا ألتهم شيئًا. أمي قالت لأبي
وأبي أخبر عمي، وفي النهاية قال الجميع بخبث:
- "الحب! تالله هو الحب!"
أبي كان سعيدًا لأنني نضجت وكبرت ولأن هرموناتي بدأت تعمل، لكنه نصحني بألا أضيع وقتًا كثيرًا.. الحب قد يبني حياتك وقد يدمّرها..
لم
أكن أنوي إخفاء أي شيء.. قلت له إنها سديم.. قلت إنني أقابلها في
المقابر.. قلت إنها تتحلل وجلدها يسقط.. ذات مرة وضعت يدي على ظهرها فشعرت
بالرئة تحت أناملي من تحت الثوب. أصابها خجل شديد وطلبت مني ألا أفعل هذا
ثانية..
قال أبي في ضيق إنني أخرف..
على أنني عدت له في اليوم
التالي ومعي البيانات.. الاسم سديم فتحي الجوهري.. توفيت منذ عام ونصف..
تتحدث كثيرًا عن الغرق. لا أعرف التفاصيل...
سخر أبي مني كثيرًا..
على أن زياراتي للمقابر استمرت فترة طويلة، وفي النهاية قرر أن يبحث في
المقبرة عن هذا الاسم الذي سمعه. دفع مالاً للّحّاد الذي جعله يرى القبر.
قال لي أبي إن فريق البيتلز البريطاني وجد مقبرة
قديمة عليها اسم "إليانور رجبي"، فخطر لهم كيف كانت هذه المرأة تعيش
حياتها. كتبوا عنها أغنية شهيرة جدًا، وما زال قوم كثيرون يعتقدون أنها ما
زالت حية، ومن صدّقوا أنها ماتت ما زالوا يزورون قبرها..
- "الموتى قد يكونون أكثر حيوية من الأحياء.. وأنت قد منحت سديم هذه حياة خاصة بها.."
على
أن اللحّاد أخبره بأن الفتاة ماتت غرقًا. كانوا أثرياء وكان هناك حمام
سباحة في البيت.. القصة الشهيرة عن الأهل الذين يهملون الطفل فيقع في حمام
السباحة ليلاً ويموت..
هذا أثار قلق أبي.. من أين عرفت أن الفتاة ماتت غرقًا؟؟
الطبيب
حدثني عن الوساوس وحدثني عن الشخصية الأخرى الموجودة في ذهن كل طفل، والتي
يتبادل معها الكلام. لكني كنت غارقًا في الحب ولم أشأ أن أفقدها..
كانت تلك هي الأعوام التي ظهرت فيها أغنية إيزاك هايز "لو كان حبك خطأ فلا أريد أن أكون على صواب"، وكانت تناسب الوجيعة بالضبط..
**************
والأغنية تتردد الآن..
هذه الليلة فريدة من نوعها.. برغم الفتيات الجميلات والصخب والزحام، ثمة رائحة ما أعرفها.. سوف يحدث شيء مهم..
الأغنية تتردد:
لو لم أرك عندما أريد.. فلسوف أراك عندما أستطيع..
لو كان حبك خطأ فلا أريد أن أكون على صواب
أنا مخطئ لأنني جائع لرقة لمساتك
بينما هناك من ينتظرني في الدار..
ما الذي ذكّرهم بهذه الأغنية؟
الفكرة هنا هي أن موقفي الأخلاقي لم يكن بهذه الدرجة من السوء..أنا لا أخون زوجة.. لكني كنت أخترق الحاجز الفاصل بين الموت والحياة..
عرفت من يحب فتاة ليست من دينه وكان هذا حاجزًا مهمًا..
هنا نجد حالة فريدة أن يحب المرء فتاة ليست من حالته البيولوجية!
سديم يا جميلتي.. سديم..
وشيرين تنظر لي ثم تدسّ ملعقة من السلطة بين شفتيها وتقول:
- "أقسم بالله إنك تحب.. هذه نظرات عاشق.."
غرست الشوكة في السلطة وتذوّقتها.. مالحة جدًا.. مالحة جدًا..
**************
شيء آخر كان مالحًا بذات الدرجة.
ربما دموعي وأنا أشرح لأبي أنه
ليس بوسعي الاستغناء عن سديم. لن أحكي موضوع الإصبع المتآكل الذي وجدته أمي
في جيبي طبعًا.. لم تكن قد سمعت عن النكروفيليا لذا كان الجنون هو
الافتراض الوحيد لديها.. أنا جُنِنت بلا شك..
تم الفراق في يناير من ذلك العام عندما قرر أبي أن ننتقل لبلدة أخرى. وقد راق له هذا؛ لأنه سيحل مشكلتي بشكل غير متعمد.
هكذا ابتعدت عن هذه المقبرة ولم أر فتاتي بعد هذا طويلاً، لكنني ظللت أحمل لها ذكرى لا يمكن نسيانها..
وبعد
أعوام صرت ناضجًا، وصممت على أن أعود إلى المقبرة لأبحث عنها. هذه الذكرى
القوية المؤثرة. هل هي هلاوس طفولة فعلاً؟ يجب أن أعرف..
آه.. أرجو أن تمنحوني لحظة لابتلاع قرص من المهدئ لأنسى..
عندما ظهر جلال الشريف نفسه حرص على أن يبدو وغدًا ثريًا بكل ما في
الكلمة من معانٍ.. كان يلبس بزّة بدت لي رثة مزرية، وهذا هو الدرس الذي
تعلّمته منذ زمن: كل بزّة تبدو لي رثة مزرية هي في الحقيقة فاخرة جدًا ولا
أقدر على شراء زر من أزرارها.. لعل هذه هي أحدث موضة باريسية لهذا
الأسبوع..
كان يحمل كأسًا في يده اليمنى وقد دس يده اليسرى في جيب
السروال. بالتالي صار من المستحيل أن أصافحه. دنا مني والتمعت عيناه فظهرت
أسنانه النضيدة البيضاء.. يمكن أن يصنع ثروة لو عمل كموديل لمعاجين
الأسنان..
- "محمود بدران.. الكاتب الصحفي الجريء".
بدا لي من الغريب أن يعرفني، وهذا يزيد الأمور حرجًا.. أنا جئت كمتفرج من بعيد، وآمل ألا يلاحظ أحد وجودي هنا..
لو
كان هذا الرجل يقرأ فهو يعرف ما كتبته عنه.. الحق أنني بذلت ما بوسعي كي
أهدمه هدمًا، ونشرت عشرات الوثائق التي تدينه.. وثائق حقيقية يفضّل أصحابها
أن يبقوا في الظل.. وبعد أشهر من النشر المتواصل توصّلت إلى أن هؤلاء
القوم من أمثال جلال لا يسقطون أبدًا.. إذا أردت أن تتخلص من أحدهم فاذهب
واقتنِ مسدسًا لكن لا تكتب مقالاً.. هذه الأشياء تسعدهم لو أنهم قرؤوها
أصلاً..
هززت رأسي باسمًا مجاملاً، فقال:
- "عادل أخبرني أنك هنا.. صدّقني.. أنا أحب الصحافة جدًا.. إنها مرآة المجتمع الحقيقية".
من جديد هززت رأسي.. فقال لشيرين:
- "أرجو أن تخبري هذا السيد أن ما يكتبه لن يمر في سلام للأبد.. هناك لحظة أكيدة يفقد فيها المرء أعصابه".
راق لي التحدي.. أحب الأشخاص الذين يخطئون؛ لأنهم يمنحونك فرصة لعمل شيء.. بينما أسلوبه السابق لا يمكن التعامل معه..
قلت وأنا أنظر في عينيه:
- "أتمنى أن أعرف ما يعنيه هذا الكلام؟"
ابتلع ما بكأسه بسرعة، وقال وهو يهزّ خديه كأنما الشراب حريف المذاق جدًا:
- "الحياة لعبة.. لعبة يجب أن تلعبها ببراعة، وعلى من لا يجيدون اللعب أن يبقوا في بيوتهم.."
وقبل أن أفهم هز رأسه من جديد محييًا وابتعد.. وعلى الفور تكوّنت حوله دوامة من المريدين والمعجبين والسكرتارية والحراس.. إلخ.
كانت له رائحة عطر غريبة فعلاً.. رائحة رحلت معه عندما ابتعد.. رائحة من تلك التي تشعر أنها رائحة شخصيته ذاته..
كانت رائحة الهواء قريبة من هذا في ذلك اليوم..
*************
هكذا كنت أتشمم الهواء وأنا أتجه نحو القبر الذي أذكره..
كنت في
الكلية في ذلك الوقت.. شابًا مفعمًا بالأحلام أقرب إلى الوسامة، وكنت أعتقد
أنني سأغير تاريخ الصحافة في مصر.. هيكل لا بأس به لكنه يستمد قوته من عبد
الناصر، ومصطفى أمين أسهل مما يجب... إلخ. غرور الشباب في صورته الكاملة.
الشمس
سوف تنحدر للغرب بعد قليل.. لكنني تعلمت منذ طفولتي أن أشعر بالألفة مع
المقابر ولا أهابها. هكذا رحت أبحث.. أخيرًا وجدت ذلك القبر الذي تناثرت
جواره نباتات الصبار.. مقابر أسرة الجواهرجي.. المرحومة سديم فتحي.. توفيت
يوم...........
جلست جوار القبر..
كم جئت هنا في طفولتي وكم لعبت.. ترى هل حقًا كنت أهذي؟ هل كنت طفلاً وحيدًا خلق خياله رفيق لعب كما يحدث كثيرًا جدًا؟
لكني فعلاً أحبها.. أشتاق إليها.. عزيزتي سديم..
أنا أحبك أكثر من أي شيء، ولسوف تكون قسوة غير عادية أن أعرف أنك وهم، لكن
مع الأسف..
هكذا غلبني البكاء.. جلست على صخرة ورحت أنشج.. أنشج من
دون توقف.. وكلما أفقت قليلاً فطنت لحقيقة أنني أبكي.. من ثم أبكي أكثر..
بعبارة أخرى أنا أبكي؛ لأنني أرثي لنفسي لأنني أبكي!
الشمس تنحدر للأفق.. المعجزة التي تحوّل كل الألوان التي عرفتها إلى اللون الأرجواني. المعجزة التي تحوّل كل شيء إلى كآبة..
هنا شعرت باليد على كتفي..
قاسية جافة عظمية.. كانت هناك..
استدرت للخلف لولا أن سمعت الصوت الحازم الذي أعرفه جيدًا:
- "لا تنظر!"
قلت وأنا أرتجف انفعالاً:
- "سديم.. حبيبة قلبي.."
في لهجة عملية قالت:
- "قلت لك ألا تنظر.."
- "لماذا؟"
- "لأنك لن تحب ما تراه.. لقد مرّ زمن طويل.."
قلت وأنا أبتلع دموعي:
- "إذن أنت حقيقية.. لم تكوني وهمًا من أوهام الصبا.."
-
"الوهم شيء نسبي. وما يبدو للبعض وهمًا قد يكون الحقيقة عند آخرين.. لو أن
أحدًا رآنا لحسب أنك تكلّم نفسك.. لكنك تدرك أنني موجودة.. تشمّ رائحتي..
يؤلمك كتفك من أناملي العظمية. إذن أنا بالنسبة لك الحقيقة ذاتها".
- "هل يمكن أن أستدير؟"
- "لا.. لأنك تفقدني للأبد إن فعلت"
وهكذا
جلسنا ربع ساعة في هذا الوقت.. أنا أنظر أمامي أو ليدي وهي من خلفي
تحدّثني.. تحدّثني عن ماذا؟ لا أذكر بالضبط لكنني كنت سعيدًا منتشيًا..
سديم لم تكن وهمًا على الأقل بالنسبة لي..
ثم ظهر ذلك الكلب..
الكلب
المسعور الشرس منتفش الشعر حول العنق، الذي يسيل اللعاب من شدقيه.. ولم
يكن ينبح، والنصيحة القديمة تخبرك أن الكلاب التي لا تنبح تعض..
كلب من كلاب المقابر يزحف في الظلمة الوليدة نحوي ويزوم..
هكذا انتفضت.. وثبت من حيث جلست برد فعل تلقائي، واستدرت لأكلم الفتاة الواقفة خلفي. هنا رأيت كل شيء وليتني ما فعلت..
من الخير للجميع أن تكون سديم وهمًا..
*************
كلب آخر نبح في مكان ما فأجفلت..
كنت جالسًا مع شيرين في ركن شبه
مظلم من الحفل، وبرغم أنني لم أشرب إلا عصيرًا فإن رأسي كان ثقيلاً بصورة
لا توصف.. كنت أراها بصعوبة وأسمعها بعسر.. ولو لم ينبح هذا الكلب لربما
سقط رأسي على المنضدة..
كانت الإضاءة خافتة مدوّخة، ومن بعيد تلك المصابيح المعلقة فوق أعمدة أو تماثيل..
هنا خطر لي خاطر مضحك لكنه وارد جدًا:
- "هل دسّ لي هؤلاء القوم شيئًا فيما أشربه؟"
هل
ينوي الرجل الخلاص مني؟ لا أعتقد.. إنها مجرد مقالات لم تؤذِه ولم تسبب له
أذى.. إلا إذا كان يملك نفسية طفل لا يطيق اعتراضًا واحدًا. أستبعد هذا
فهو بارد ثابت الجنان..
ثم إن التخلص مني سوف يجلب له متاعب لا حصر لها.. هناك من يعرفون أنني هنا..
ماذا يدور هنا؟
أين ذهب عادل؟ هو جاء بي هنا فمتى وكيف رحل؟
الحقيقة أخطر من هذا.. لا أرى أحدًا من مدعوّي الحفل من حولي.. لقد رحل الجميع أو ابتعدوا. كيف حدث هذا ومتى وكيف لم أشعر به؟؟
الأغنية تتردد:
لو لم أرك عندما أريد.. فلسوف أراك عندما أستطيع..
لو كان حبك خطأ فلا أريد أن أكون على صواب
مَن الغبي الذي ترك جهاز التسجيل يعمل، بينما لم يعد هناك أي شخص في الحفل؟ لم يعد هناك سواي..
*************
أشعر ببرد.. برد شديد..
أنهض مترنحًا فأشعر أن الأرض تذوب تحت قدمي.. هناك الكثير من رغوة الصابون
في كل مكان.. قدمي تنفتح كلما حاولت أن أقيمها...
مددت يدي لشيرين وقلت بصوت كأنه من قاع بئر:
- "ساعديني ي ي ي.."
نهضت وابتعدت بضع خطوات للخلف لتكون نائية عني وقالت:
- "اسمع.. بالفعل أنت تحت تأثير مخدر.. أنا دسسته لك في العصير."
- "والسبب؟"
ثم
فطنت إلى أنه سؤال أبله.. أنا أكره الأسئلة الغبية.. لماذا يدس لي عدوي
اللدود مخدرًا في شرابي ويتخلص من كل ضيوف الحفل؟ فلتجب أنت.. لا شك أن
ضيوف الحفل قد تلقوا أوامر صارمة بالرحيل أو نقلوهم لمرحلة أخرى من المرح،
بينما بقيت أنا...
أين الهاتف المحمول؟ جربته من قبل فوجدت أن الشبكة لا تعمل هنا.. ولا شك أنهم يعرفون هذا...
قالت شيرين:
-
"أنا أكره أن أراك تموت، لكن جلال الشريف قد أعد لك نهاية دامية.. لا
أستطيع أن أساعدك فأنا أعمل عنده... هو يسمع كل ما أقوله لك الآن.. في
الواقع هناك كاميرا تنقل له المشهد كاملاً.. هو قال لك إن الحياة لعبة وكان
يعني ما يقول".
الحياة لعبة.. وطبعًا يسهل أن تقول هذا لو كنت أنت الطرف الرابح.. لو كنت آمنًا تراقب ما يحدث وفي يدك كأس من الشراب..
- "هل سيطلق النار على رأسي ويدفنني في الحديقة؟"
-
"لا.. لديه أفكار أفضل.. إنه يريد أن يراك مذعورًا تجاهد من أجل حياتك..
لو استطعت النجاة حتى الفجر فأنت حر، وإن كان يعرف أنك لن تبلغ عما حدث لك،
وإن لم تستطع فهذا حظك السيئ.."
كان عقلي ملبّدًا بالغيوم.. أمرّر
كل ما يقال ثلاث مرات أو أربع حتى أفهمه، كأنها تلك الأشرطة المشفّرة على
السلع التي يمررونها على جهاز قراءة السعر.. أحيانًا يفعلون ذلك ثلاث
مرات..
كانت تقول:
- "سوف أختفي أنا.. بعدها سوف يبدأ حفل الصيد.."
- "صيد؟"
- "صيدك طبعًا!"
*************
كنت أجري مذعورًا في المقبرة شاعرًا بالذعر.. عارفًا أنني تجاوزت الخطوط
الفاصلة بين العالمين، وإنني سأدفع الثمن من كوابيسي ما بقي لي من عمر..
ألمٌ في كتفي حيث كانت تطبق يدها..
لقد تغيّرت سديم.. تغيّرت كثيرًا...
كنت أسمع صوتها يتردد في ذهني:
- "أنا أحببتك.. ولم أحسب أنني سأفقدك بهذه البساطة.. محمود.. محمود".
كنت أردد: من الخير لسديم أن تكون وهمًا.. من الخير أن تكون وهمًا...
كنت
ألهث وأبكي والدمع يجعل الرؤية مستحيلة.. أتعثر في الحجارة.. في شواهد
القبور.. منذ متى يضعون 60 شاهدًا على كل قبر؟ ما كل هذا العدد؟
كنت خائفًا..
ثم توقفت..
شعرت
بالخجل من نفسي.. أنا لست طفلاً.. لن أتخلى عنها لمجرد هذا التغير
البيولوجي في ملامحها. لقد أحببتها وأنا طفل، ولم تكن مثالاً للفتنة
وقتها..
منذ صباي كنت أعشق سديم.. ماذا قد تغير؟ أنا أتصرف كمن تصاب حبيبته بحرق في وجهها فيتخلى عنها بكل قسوة...
هكذا توقفت وفكرت في أن أرجع. لكني شعرت بشيء غريب أمامي..
كان
هناك.. لا أعرف ما هو بالضبط لكنه كان يسدّ طريقي.. تبينت أطراف العباءة
الرمادية الممزقة المليئة بالبقع.. الوجه الذي لا أريد أن أراه.. القامة
العملاقة التي تتجاوز ثلاثة أمتار.. صوت التنفس العالي الشبيه بالخوار..
سمعت عنه كثيرًا لكني لم أره من قبل. الآن وهو يسدّ الطريق أمامي أدركت أنني في مأزق حقيقي.. كان هو الرهبة لو صار لها وجه وصوت..
تراجعت للخلف في رعب..
وفجأة سمعت صوت سديم يقول لي في حزم:
- "قف خلفي!"
تراجعت
للخلف ووقفت أرتجف وأنا أرقب صراع الإرادات في الظلام وفي ضوء القمر بين
الاثنين.. الكلاب تنبح من بعيد.. النجوم تهوي في السماء، وهي تتقدمني وأنا
أمشي خلفها.. تمر جوار الشيء وكأنها تقول له إنني في حمايتها..
كنت أرتجف كطفل بينما هي تحميني.. وبرغم هذا كله لم أنظر لها قط.. خشيت أن ألقي نظرة ثانية..
لو كانت سديم وهمًا فخوفي حقيقي..
*************
كنت خائفًا بذات الدرجة وأنا أركض..
برد.. برد.. برد.... بررر بررر..
أين ذهبت شيرين؟ لا أعرف.. كأن الأرض ابتلعتها..
لا
يجسر جلال على قتلي.. لماذا يفعل ذلك أصلاً وأنا مجرد كاتب؟ لكنني سمعت عن
نزوات هؤلاء القوم.. قد يفجّر أحدهم رأسك؛ لأنك انتقدت ربطة عنقه..
بالنسبة لهم نحن صراصير..
كنت أجري بلا هدف.. لا أعرف مما أهرب.. ما هو الخطر؟
أنا
في حديقة قصر شاسعة.. ظلام.. مصابيح في كل مكان.. تماثيل.. أعتقد أن هناك
كاميرات في كل مكان.. هناك الكثير من الحراس طبعًا لكنه لا يريد أن يفسد
متعته بسرعة..
الغريب أنني لا أعرف أين أجد سقفًا.. الحديقة مترامية لكن لا بد من بناية أو شيء هنا أو هناك.. شيء أتوجه له..
لو كان تفكيري صافيًا لوجدت حلاً بسرعة، لكني تحت تأثير مخدر كما قلت، وهذا ضاعف تأثير أنني أحلم..
لماذا
اهتممت بجلال لهذا الحد؟ حقًّا لا أعرف السبب.. ربما كان الحقد الطبقي
وربما هو الشرف المفرط.. المهم أن هذا الرجل كان يمثل كل ما أمقته في
العالم.. وقد فعلت كل ما أستطيع كي أدمره..
الآن أنا تحت رحمته تمامًا..
توقفت تحت مصباح في الحديقة وقلت لنفسي:
-
"يجب أن تفيق.. مشكلتك هي أنك لا تصدّق أنه يمكن أن يقتلك.. يجب أن تصدّق
هذا يا صاحبي.. إنه يملك النفوذ والمال.. يمكن أن يدفنك في الحديقة ويأتي
بعشرات الشهود يقسمون إنه كان معهم ساعة الوفاة، وجيش من المحامين يجعلون
أسرتك تدفع ثمن الشك في رجل أعمال شريف مثل جلال.. يجب أن تتماسك.. يجب أن
تؤمن بأنك في خطر داهم".
برد .. برد .. برد.
من القسوة أن يموت المرء بينما البرد يلتهم أطرافه.. كنت آمل في ميتة مشمسة دافئة نوعًا...
نباح الكلاب من بعيد وأنا أركض مذعورًا..
************
الكلاب
لم تكن تنبح في تلك الليلة منذ أعوام، بل كانت تزوم.. وكانت سديم تتقدم
المشهد.. الأسمال التي تلتف بها تتطاير في ضوء القمر الشاحب.. كانت تتقدمني
بخطوات بطيئة. برغم كل شيء كانت فيها لمسة من فتاة صغيرة لعوب.. كأنها
صورة ساحرة تم تشويهها وحرقها..
الكلاب كانت تحيط بنا في دوائر وهي
تنبح.. ثم تتراجع للخلف دون أن تبعد عيونها وتنفتح الدائرة... سديم تصدر
صوت هسيس غريبًا.. أعرف هذا لأنها تتقدمني لكن لا أنظر لها أبدًا.. أكتفي
بالنظر إلى قدمي؛ لأني لو رفعت عيني لرأيت..
وكنت أعرف أن الكلاب تراها جيدًا.. أنا أراها جيدًا.. الناس لا يرونها على الأرجح...
كانت تحكي لي عن أشياء....
عن
الطفلة الساحرة سديم التي تلهو في حديقة الأسرة ليلاً.. عن الأب طيب القلب
الذي يجلب لها لعبة قطار ودمية تتكلم.. ماما.. بابا.. عن الأم الرقيقة
التي تتظاهر بالحزم أحيانًا... عن الأخ الأصغر المزعج... عن الحياة الكاملة
التي فرّت من أناملها..
- "أنا أحبك يا محمود".
ولأنها تحبني تحميني من كل كلاب المقابر ذات الشعر المنتصب حول العنق.. تحميني من الزئير الغاضب الخفيض..
في ليلة أخرى كانت هناك يد قوية امتدت لتحيط عنقي من الخلف، وشعرت بالمعدن البارد تحت ذقني وسمعت صوتًا لاهثًا في أذني:
- "نقودك بسرعة.."
سمعت صوت فحيح غريب أتى من مكان ما..
مددت
يدي الراجفة في موضع الحافظة من سترتي، وحاولت أن أخرج الحافظة لولا أن
تخلت عني تلك القبضة.. ولما نظرت رأيت هذا الوغد مكومًا على الأرض..
رأيت الخيال المميز لسديم في الظلام.. لا أعرف إن كان رآها أم لا لكنه بالتأكيد سمعها.. فهي صاحبة الفحيح... وكانت تقول:
- "معذرة.. هذه من حيلنا المعروفة!
************
أخيرًا
رأيت ثلاثة كلاب تركض نحوي في حديقة القصر الشاسعة.. كلاب جلال الشريف
السوداء من طراز (روتوايلر) التي تبدو كالبلطجية الخارجين من السجن.. كتلة
عضلات حية تركض نحوي.. لا بد أن جلال هذا مجنون.. لن يستطيع أي حارس أن
يسيطر عليها في الوقت المناسب.. هذه عملية إعدام وليست تخويفًا.. رفعت يدي
محتجّا كما كنا نفعل ونحن أطفال.. كأنني أقول: مش لاعب يا كابتن .. دي مش
طريقة..
لا بد من شجرة في مكان ما.. لكن لم أجد شجرة.. وجدت ثلاثة
مقاعد تحت عمود إضاءة، فأمسكت بأحدها ورفعته.. إن القوة العضلية لهذه
الوحوش تكفي لإطارة المقعد من يدي فورًا..
يجب أن أتماسك..
كلب رابع آت من بعيد..
وثب كلب باتجاهي فتراجعت لأجد أن الآخر ينهي وثبة طاشت..
سقطت على الأرض وسقط المقعد من يدي، ولا أعرف كيف وجدت الإلهام...
الهسيس..
الهسيس الذي أطلقته سديم في تلك الليلة وجعل الكلاب تتراجع... إنني قادر على أن أفتعله بحنجرتي..
وعندما نهضت على قدمي فوجئت بأن الكلاب تتراجع.. لا تبعد عيونها عني لكنها تقف صفًا وتتراجع للخلف... هذه حيلة تعمل..
لم أنظر للخلف ورحت أركض.. لكني كنت أعرف أنها لا تقتفي أثري.. أصوات أقدامها ثقيلة جدًا ولا يمكن ألا تسمعها فوق العشب الرطب..
توقفت ونزعت سترتي.. ألقيت بها بعيدًا وكذا فعلت مع ربطة عنقي..
الحذاء.. سوف أتخلص منه.. الجورب..
إن
هناك أشياء كثيرة تحمل رائحتي في عدة مواضع.. وإن كنت فعلت هذا بسبب الحر
وليس التضليل.. البرد الذي كان يقتلني تحول إلى حر يقتلني كذلك...
- "توقّف!"
ورأيت
من بعيد حارسين يركضان نحوي.. عرفت الرأس الصلعاء والأناقة المفرطة في
الظلام... لم يكونا مسلحين.. لماذا يحمل شخص بهذا الحجم سلاحًا؟ رحت أركض
وأنا أعرف أنهما يركضان خلفي، وكنت سريع الحركة لذا عرفت أنني سأتعبهما
قليلاً.. من بعيد أرى حمام السباحة العملاق يسبح في الأضواء وتطفو فوق
مياهه البالونات الملونة من بقايا الحفل...
- "الفحيح يا محمود .. جرّب الفحيح!!"
أي فحيح؟ ثم تذكرت.. اللص يلفّ ذراعه حول عنقي وسديم تطلق ذلك الصوت الغريب.. معذرة.. هذه من حيلنا المعروفة!
أطلقت
الفحيح.. وللحظة تصلّب الرجلان وهما يراقبان ما أفعل... لا يفهمان سر هذا
الخبال الذي أصابني فجأة... ثم بلغت التردد الصحيح والنغمة الصحيحة.. عندها
رأيت أن أرجلهما تتخاذل..
يسقطان.. لكنهما ينهضان ثانية وقد أمسك كل منهما برأسه..
ليست حيلة ناجحة جدًا...
ومن
بعيد أرى المزيد من الرجال قادمين.. معهم كلاب.. وقفت حيث أنا وقد أدركت
أن المزاح انتهى على الأرجح. وسط الرجال كان أحدهم يتقدم في ثبات وهو يضع
يديه في جيبيه.. مثالاً للسيطرة وقوة الشخصية..
كان هو جلال ذاته..
كانت عيناه تلمعان..
************
هكذا كانت عيناه تلمعان بعد انتهاء الحفل..
سديم
الصغيرة الجميلة تركض في حديقة دارها.. الكل بالداخل يمرحون، وعمو جلال
الشاب يمشي وسط الأشجار.. هناك تعريفات كثيرة للنجاح لكن من بينها أن يكون
عندك قصر مثل هذا.. ستعرف أنك قد بلغت القمة.. ستعرف أنك لا تملك أرزاق
الناس لكن تملك حياتهم كذلك...
هنا يرى الغزال الرقيق الطفل يجري.. وحده..
ينظر لها بعض الوقت ثم يناديها.. سديم..
- "عمو جلال.."
ثم رأت عينيه...
كانت عيناه تلمعان بذات البريق..
سديم تصرخ وتركض في الحديقة خائفة.. سديم تنادي أباها.. جلال يحاول اللحاق بها.. يا لك من حمقاء.. سوف يجذب صراخك الجميع...
في
النهاية تمكّن منها.. وضع يده على فمها.. نظر حوله.. لن تخرس أبدًا.. لن
تخرس.. لماذا يا سديم؟ ترين أنني ضحية.. حتى عندما ألقيت بك في حمام
السباحة البارد ورحت أضغط رأسك تحت مستوى الماء كنت أنا ضحية.. أنت جعلتني
أفعل ذلك..
لقد صرت جثة طافية يا سديم.. أنا آسف.. الغلطة غلطتك...
البقاء
لله يا فتحي بيه.. كلنا سنلقى النهاية ذاتها... لو أردت أي شيء اتصل بي..
هل حقًا تريد بيع هذا القصر؟ سأجد لك زبونًا مناسبًا..
تماسك.. تماسك..
************
- "تماسك يا أستاذ محمود.. أنت رجل ناضج.. سوف نتفاهم".
ثم أخرج سيجارًا وأشعله ليبدو وغدًا.. نفث الدخان بكثافة بينما الرجال يحيطون بي..
تراجع بظهره قليلاً ليصير بيني وبين حوض السباحة حيث تسبح البالونات. فجأة حدث كل شيء..
فجأة
انشق الماء ليخرج هذا الشيء المبتل.. الشيء الملفوف في أكفان.. شيء أعرفه
جيدًا.. فجأة التفت الذراع حول جلال.. فجأة جرّته الذراع إلى حمام
السباحة...
صرخ في هلع.. لكن الحقيقة أن كل شيء تم بسرعة إلى درجة
أن الرجال لم يتحركوا.. ظلوا يراقبون المشهد في رعب.. حتى الكلاب تراجعت
للخلف بلا صوت...
الماء انتثر... الماء يفور... جلال يصرخ كأن تمساحًا يمسك به بين فكيه..
في النهاية ساد السكون.....
وعندما
ساد السكون بدا الرجال كأنهم جنود مات قائدهم ولم يعودوا على استعداد
للقتال لحظة واحدة أخرى... ومن بعيد جاءت الفتاة شيرين وكانت تبكي.. لقد
انتهت المسرحية نهاية دامية حقًا..
************
أحبك يا سديم..
وأنت تحبينني حقًا..
هناك
أجزاء فهمتها وأجزاء لم أفهمها بعد. مثلاً فهمت لماذا بدأت أهتم بجلال
وأكتب عنه.. أنت أوحيت لي بذلك.. كان هذا هو الانتقام. لكن ما لم أفهمه بعد
هو هل كان هذا القصر هو قصر أبويك فعلاً؟ لم أستطع التأكد من هذه النقطة،
ولم أعرف إن كان هذا هو حمام السباحة الذي مت فيه أم لا.. لقد استطاع جلال
أن يخفي التاريخ القديم لهذا القصر.. لكن لو كان هذا هو القصر ذاته فأعصاب
الرجل قوية جدًا، دعك من أنني لا أفهم لماذا تركته كل هذه الأعوام واخترت
الليلة.. ما لم يكن خوفك عليّ جعلك تفعلين ما لم تعتادي فعله، وتعبرين
الحدود المحرمة بين العالمين..
لماذا لم تساعديني وأنا في الحديقة؟ يبدو أن سبب هذا هو أنك مرتبطة بمياه حمام السباحة فقط، على أن ما تعلمته منك أفادني كثيرًا..
الحراس
لم يفهموا شيئًا ولم يروا ما حدث جيدًا.. قالوا إن جلال بيه أصابه الهلع
فجأة وسقط في حمام السباحة... قد أكون أنا محقًا وتكونين أنت من فعل هذا،
وقد يكونون هم محقين وأنا مخرف كبير..
ما أعرفه يقينًا هو أنك لي وأنني أحبك..
يومًا ما سيتم اللقاء النهائي بيننا وتتحطم كل الحواجز..
يومها
هل ستعرفين وجهي؟ هل ستتذكرين اسمي؟ هل ستعنين بي في رحلتنا المرعبة عبر
الظلمات، كما فعلت بياتريس مع دانتي في (الكوميديا المقدسة)؟
سوف نرى.. سوف نرى..
تمت
بقلم العبقري
د احمد خالد توفيق
منقول من موقع بص و طل
بقلم العبقري
د احمد خالد توفيق
منقول من موقع بص و طل
No comments:
Post a Comment